اللامركزية المغربية – التحديات التي تواجه التنفيذ الفعلي
بقلم الدكتور يوسف بن مئير
تحمل مبادرة اللامركزية المغربية وعدا ً كبيرا ً لتحقيق أهداف التنمية البشرية التي هي حقا من أجل “الشعب”. وحيث إن الثورات والإضطرابات تجتاح أجزاء كبيرة من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإن النموذج المغربي يبرز باعتباره وسيلة محتملة لتمكين وإشراك المواطنين في أعمال سلميّة ومثمرة لتشكيل مستقبلهم. ومن خلال اللامركزية تختار المجتمعات المحلية وتنفذ كل ما يجب، وذلك لإنجاز المشاريع التي من شأنها تقديم فوائد حيوية في مجالات الصحة والتعليم وخلق أعمال تجارية وغيرها من مجالات الحياة التي يرونها مهمة، أضف إلى ذلك أن النموذج المغربي استثنائي حقاً لأنه يحشد الدعم على الصعيدين الوطني والإقليمي لتنفيذ المشاريع والمخططات المقررة.
لقد كنت منذ فترة طويلة – وأبقى كذلك دون خجل – معجباً ومؤيداً للامركزية المغربية. وربما لهذا السبب، أنا أيضا أعي تماماً بأن الوصول باللامركزية إلى المستوى الوطني المطلوب قد يكون تحديا ً كبيرا ً لتأكدي بأن التنفيذ سوف يكون مهمة تستغرق عدة عقود. وأود أن أقدم بعض الأمثلة الحالية حول الفجوة بين النظرية والواقع، تليها بعض التوصيات حول كيفية التغلب على العوائق الكبيرة المتبقية من أجل الوصول إلى نظام لامركزي حقيقي ومنهجي يقوم بوظيفته على أكمل وجه.
اللامركزية باعتبارها حالة ذهنية:
أولا، فيما يتعلق بالثقافة الإدارية العمومية المغربية، فإن عادة التوجه إلى عاصمة المغرب الرباط المستمرة منذ عدة عقود يبقى أمرا من الصعب جدا التغلب عليه، حتّى بوجود هياكل لامركزية. فالمدراء على الصعيدين المحلّي والإقليمي يقومون بخدمات إنسانيّة لحماية البيئة عبر مساحات شاسعة من المملكة. ومع ذلك، ففي بعض الأحيان لا يستطيع هؤلاء تقديم أنفسهم لاتخاذ قرار مستقل بشأن هكتار أو اثنين من الأراضي، أو توفير التمكين لتوسيع خدمة قائمة ضمن منطقة صلاحياتهم القضائيّة دون أن يطلبوا من رئيس وكالتهم أو دائرتهم في الرباط منح الموافقة عليها، وهذا ما يمكن وصفه بشكل واضح بالضعف والخلل الوظيفي.
على سبيل المثال، منطقة مراكش لديها السلطة لاتخاذ قرار بشأن زيادة عدد الأسرة في إحدى دور الطالبات بمدرسة ثانوية في منطقة ريفية. إلا أن انتظار ختم الموافقة من الرباط قد يؤدي لبقاء أسرّة شاغرة لمدة عام دراسي كامل، في حين يكون شباب الريف قد ابتعدواإلى مكان آخر.
بالإمكان أيضا ً تجنب تأخيرات مماثلة في التنفيذ عن طريق مراكز الإرشاد الزراعي ا لتي من المفروض أن يكون لها بالفعل سلطة (جنبا إلى جنب مع رؤسائها أو مشرفيها الإقليميين) لاتخاذ قرار يتعلّق بهم حول إنشاء مشتل أشجار مثمرة لخدمة المجتمعات المحلية المجاورة. ففي شمال وجنوب المغرب، قد يقرر حماة الغابات والحياة الطبيعية تحديد شكل مناسب من أجل إشراك المجتمع المحلي وتنفيذه على الفور، هذا دون الحاجة إلى الجلوس مكتوفي الأيدي بانتظار جواب من الرباط.
اللامركزية، إذن، بالقدر الذي هي حالة ذهنية هي أيضا توجيه رسمي، فحتى عندما تمنح القوانين والسياسات القدرة على اتخاذ القرار في المناطق والمحافظات والبلديات، فإن الأمر يبقى رهينا بالمسؤولين المحليين على مستوى المجتمعات المحليّة لممارسة قدرتهم المكتسبة حديثا. خلافاً لذلك، إذا بقيت الرباط العاصمة ماسكة ً بالسلطة أو بزمام الأمور بشكل ٍ فعّال في الوعي الرسمي، سيتم هدر الكثير من الوقت الذي يمكن أن تضيع معه العديد من الفرص الثمينة لتقدم حيوي تتبعه آمال بائسة.
المجتمعات المحليّة وقادتها:
ثانياً، وبالتوافق مع دعاة آخرين للامركزية، كنت متمسكا ً بمبدأ أن يتم نقل السلطة للشعب بأقصى درجة ممكنة، يعني في المغرب على مستويات البلديّة. إنّ قيام البلديات بوضع خطط تنمية مجتمعية على أساس المشاركة الشعبية هو ما ينصّ عليه قانون البلد ويمكن أن يكون بمثابة حجر الزاوية لنظام لا مركزي فعّال قابل للحياة. لقد كانت الإنتخابات البلدية الأخيرة في المملكة والتي أجريت في سبتمبر / أيلول 2015 مؤطّرة لتذكير الناخبين بأهمية اختيار القادة المحليين في سياق اللامركزية ومن ثمّ تصبح سلطة اتخاذ القرار شعبيّا ً مسألة ضمنية. ونتيجة لذلك، ففي العديد من البلديات صعدت قيادات جديدة وشابة إلى الأمام؛ ولكن في حالات أخرى ظلت القوى الراسخة.
في وسط هذا كلّه يكمن قلق مزدوج خطير يتمثّل بالسؤال التالي: لمن وبأية سرعة تنتقل السلطة ؟ أول تجربة مباشرة اكتسبتها في العمل بشكل وثيق كانت مع القادة المحليين في أجزاء مختلفة من البلاد جعلتني متعاطفاً للغاية نحو اتباع نهج تدريجي لتحقيق اللامركزية .
فاللامركزية المنفذة بشكل ٍ سريع ومتهوّر سوف تزيد من ترسيخ سلطات قادة محليين مخيبي للآمال يسعون وراء مصالح شخصيّة ضيّقة ويبدون تعنتاً في مواقفهم في حين يتخلون عن مصالح طويلة المدى للكثيرين، هذا كلّه لمنفعة أصغر بكثير ولعدد جد قليل.
سوف ينتج عن لامركزية السلطة في هذا السياق وباحتمال كبير زيادة في الطبقات الإجتماعية والإقتصادية على الصعيد المجتمعي المحلّى والأصعدة الأكبر للرقابة الإجتماعية، وتبقى الحقيقة القاسية بأن اليوم في عدد كبير من البلديات الريفية، لا توجد فتاة واحدة ملتحقة بمدرسة ثانوية أو في صفوف الجامعة. وفي الوقت الحاضر، حتى مع توفير دور الطالبات والتعليم العامّ مجانا، عشرة في المئة فقط من الأطفال في العديد من القرى والبلديات الريفية هم من يكملون دراستهم بالمدارس الثانوية.
هذا إلى حدّ ما هو مهزلة في صنع القرار خاصة ذلك الناتج عن الوالدين. فمع إضافة عامل اللامركزية والممارسات التشاركية في صنع القرار في إطار اجتماعي، وكون هؤلاء الذين يصنعون الخيارات منهمكين بشكل منهجي في تفكير راسخ، فهذا كلّه لا يؤدي لتحقيق النتيجة المرجوة.
التعلم بطريق التطبيق:
أنا شخصيا قد تأثرت عدة مرات من رغبة القادة المحليين العميقة لتنفيذ مقاربة تشاركيّة مجتمعيّة شعبية حقيقيّة. ومع ذلك، فإنهم ببساطة لا يعرفون كيف؟ وماذا يمكن القيام به على هذا المستوى؟ الجواب هو: ضمان فرصة التعلم بالممارسة؛ إذ يتعين على أعضاء المجالس البلدية والجمعيات والتعاونيات اكتساب خبرة تطبيقات مجتمعية تستند إلى منهجية التخطيط التشاركي وتقييم الاحتياجات المحلية، وهناك أمثلة رائعة من هذا التعلم التجريبي تجري في المملكة، بما في ذلك الجماعة القروية آيت الطالب، بوجدور، أوريكا، المحمدية، اثنين أوريكا وتوبقال.
المسائل المالية:
حقيقة أن اللامركزية والمقاربة التشاركية تشكلان لبنة أساسية على المستوى الرسمي في مختلف السياسات الرئيسية الوطنية. وهو في حد ذاته أمر يستحق الثناء للغاية. فبناء نظام لامركزي يتطلب تجسيد سياسات تقدمية وتوظيف تقنيات التعلم التجريبي من أجل بناء القدرات.
الأهم من كل ذلك، هو أن يتم دعم كل هذه المبادارات بزيادة التمويل، مع تسهيل الحصول على الدعم المالي على مستوى المبادرة الوطنية، التي ينبغي أن تكون وسيلة طبيعية لتمويل المشاريع، والتي لا تزال من الأشياء غير الممكن الوصول إليها إلى حد كبير بالنسبة لأغلب الناس خاصة باعتبارهم رؤساء لجمعيات محلية والتي هي في أمس الحاجة إلى هذا النوع من الدعم، نظرا لما تعرفه هذه الجمعيات من عراقيل خاصة الريفية منها.
اللامركزية الحقيقية هي أولوية وطنية تحمل معها شعورا قويا بالحاجة الملحة للمزيد من الدعم والتمويل على مستوى المشاريع، خاصة تلك المتعلقة بالتنمية البشرية التي هي عمود كل المجتمعات. إضافة إلى القيام بالمزيد من الشراكات المحلية وزيادة تمويل المشاريع.
الدكتور يوسف بن مير أستاذ علم الاجتماع ورئيس مؤسسة الأطلس الكبير، وهي منظمة تنمية دولية بين الولايات المتحدة والمغرب.