أغبار رحلة لا تنسى ولا تمحى من الذاكرة رغم كل العراقيل والمصاعب إلا أنها رحلة استثنائية بكل المقاييس، ذهبنا حاملين رسالة وكلنا أمل لتقبلها و الموافقة عليها من قبل رجال القرية ،كانت أول تجربة ننال شرفها ،بفضل مؤسسة الأطلس الكبير التي أخذت على عاتقها تحدي الدعم النفسي والاجتماعي لرجال القرى وذلك جراء ما ألم بهم بسبب زلزال الحوز.
ستكون هذه التجربة الأولى بالنسبة لي في هذا المجال، أتطلع بشغف لهذه الفرصة لتقديم الدعم والمساعدة لأفراد القرية ،أعلم أنها ستكون تحديًا جديدًا بالنسبة لي، لكنني كلي حماس للتعلم والمساهمة في خدمة المجتمع ودعمه بأي طريقة ممكنة.
في الصباح الباكر من أول يوم من تجربتي الجديدة، استيقظت بروح مليئة بالنشاط والحيوية ،بدأت يومي بأداء ركعتين صلاة تضرعت فيهما الله ليمدني بالقوة والتوفيق في هذه الرحلة الشيقة ، توجهت إلى السيارة للقاء فريقنا و للمضي قدما الى وجهتنا أغبار.
قبل أن نخوض في هذه الرحلة، دعوني أقدم لكم تعريفًا لقرية أغبار، هذه القرية المعزولة والبعيدة، محاطة بالجبال من كل جانب، لا يعرفها أحد ولا يزورها زائر،تعتبر قرية أغبار واحدة من القرى التي تضررت جراء الزلزال، فنظرًا لبعدها، لم تتلقَ الكثير من المساعدات ،لكن بفضل السيد العربي، رمز المثابرة والحب لقريته، والذي يحلم برؤيتها متقدمة ومنتجة كغيرها من القرى الكبيرة استطعنا الوصول إليها .
عندما التقيت بأفراد الفريق، الذي لا يعد بالنسبة لي مجرد فريق عمل، بل نحن عائلة واحدة فبالرغم من اختلاف شخصيتنا ، إلا أن كل فرد فينا يكمل الآخر ويحترمه، الشيء الذي جعلنا نعمل بتناغم تام ونسعى دائما لتحقيق الأفضل، لا يمكنني أن أنسى دور رئيستنا الذي أخذت عليها مسؤولية تحويل جوانبنا السلبية إلى أمور إيجابية، مما جعل منا مجموعة تستحق الاحترام والثناء.
انطلقنا في رحلتنا إلى القرية التي لا نعرف سوى اسمها وممثلها السيد العربي ، فبالرغم من طول الطريق، إلا أننا لم نشعر بالتعب بفضل الرفقة الجيدة التي كانت تسود بيننا ،بعد مضي خمس ساعات من القيادة، وصلنا إلى قريتنا المقصودة بفضل الله كان الجميع متشوقًا لبدء التحدي الجديد، وكانت كل أفكارنا تتجه نحو كيف سيتم استقبالنا وتقبلنا من قبل سكان القرية؟ وكيف سنتمكن من تقديم الدعم والمساعدة لسكانها؟ كانت تلك اللحظة بداية رحلة جديدة مليئة بالتحديات والأمل، وكان الشغف والحماس يعم بيننا، مما جعلنا على أتم الاستعداد لمواجهة التحديات وتحقيق النجاح في مهمتنا الجديدة.
ففريق الإناث كانت لديهم خبرة وتجربة طويلة في مجال الدعم النفسي، فقد استطاعوا تحويل النساء في القرى الجبلية من حالة الانغلاق والانكماش إلى حالة من الانفتاح والفعالية، مما جعلهن ذات فائدة لأسرهن و لبلدتهن ،كانت التحديات تبدو كبيرة أمامنا، لكن دور السيد عبد الله، المشرف على الورشة، كان حاسمًا في توجيهنا ودعمنا، عملنا على تحديد الخطوات اللازمة للبدء في ورشتنا ، وتحويل التحديات إلى فرص للنجاح والتطور.
انقسمنا إلى فرق اثنتين في ورشة النساء، وواحدة في ورشة للأطفال، وأنا والسيد عبدالله والسيد رشيد في ورشة الرجال
عند دخولنا الى القاعة، وجدنا المكان ممتلئ جلست أنظر إلى عيونهم، فوجدت بعضهم مبتهجين وفرحين، وبعضهم الآخر يبدي استغرابًا ،في تلك اللحظة بدأ السيد عبد الله بإلقاء كلمته، حيث كان يتحدث عن مسؤوليات الرجال تجاه عائلاتهم وبلدتهم ،وفي نفس الوقت، كان السيد رشيد يقوم بترجمة كلام السيد عبد الله إلى اللهجة الأمازيغية، ويقدم نصائح بطريقة سلسة وملهمة ، أثناء ذلك، كنت أنتظر وأراقب، فقررت أن أبدأ في التواصل مع الرجال ،بدأت ببضع كلمات، فإذا بالخوف يتلاشى تدريجيًا
أول موضوع تم مناقشته هو كيفية التنفس بطريقة صحيحة مع الموسيقى ،حاولنا أن نستمع إلى مشاكلهم، وعلى الرغم من صعوبة البداية، إلا أنهم بدأوا في التحدث تدريجيً فمن الصعب عليهم التحدث عن مشاكلهم، لأن الرجل القروي( ان تحدث عن مشاكله يعد ضعيفا في نظرهم) لكننا أكدنا عليهم أن التحدث والاستماع هما أساس الراحة النفسية ودواء للروح، وبفضل الله بدأوا في التفاعل والتحدث بصراحة في تلك اللحظة، طرح السيد عبد الله سؤالًا مهمًا على الحضور، سألهم عن مصدر قوتهم لم يكن أحد منهم يتوقع السؤال ، فبادروا بالرد “ نفسي ثم نفسي” ، مما أثار اندهاشي فمن الرائع أن نستمد القوة من أنفسنا لكن الدعم يأتي كذلك من العائلة فالأسرة أولا الشيء الذي جعل مسير الورشة يحثهم على حب أنفسهم و عائلاتهم.
في المحور الثاني، بدأنا بالحديث عن الحب، حيث تتجلى هذه المحبة في حب الله و الذات وحب العائلة فخلال المحاضرة ، كان يشير مسير الورشة إلى حب الله ورسوله، فكانوا يتجاوبون معه بشغف ،قررت التدخل وتقديم أمثلة عن كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعامل مع زوجاته وأبنائه، وكيف كان يتصرف مع أفراد قبيلته، كيف يظهر المحبة والرحمة تجاه الآخرين الشيء الذي لقي تجاوبًا إيجابيًا، مما دفعنا إلى التركيز على هذا المحور بالذات
وجدنا أن أغلب الرجال لديهم مشاكل مع زوجاتهم أو آبائهم، في حين أنهم يرغبون في التغيير ،الشيء الذي جعلني أفتح باب الحوار فطرحت سؤالًا بسيطًا: هل يوجد أحد يقول "صباح الخير" أو أي كلمة لطيفة لزوجته؟ في ذلك الوقت، اندهش الجميع وبدأوا بالضحك، لكنني شرعت في توضيح أهمية هذه الكلمات اللطيفة و أنها هي مفتاح الخير والسعادة في الحياة الزوجية، وأنها قادرة على تحسين العلاقات وقلب الموازين فالكلمة الطيبة لديها تأثير رهيب على نفسية المرأة و الطفل فبدأ الحضور يدركون أهميتها وكيف أنها ستنعكس بشكل إيجابي في نجاح علاقتهم الزوجية .
في اليوم التالي، لم أكن أتوقع أن بعض الرجال سيتبنون النصائح التي قدمناها إليهم ، فكان ذلك من أروع اللحظات التي عشناها خلال هذه الورشة .
في اليوم الرابع و الذي يعد الأخير ، قام السيد عبد الله بالتقييم الشامل لكل المواضيع التي تناولناها، وقمنا بمناقشة أكثر الصعوبات التي يواجهها المشاركون وسعينا جاهدين لإيجاد حلول لها ،لم يكن هناك من تردد هذه المرة، تحدث الجميع بحرية وراحة، على عكس ما كان عليه الوضع في اليوم الأول من الورشة.
وكل هذا النجاح كان بفضل جهود السيد رشيد الذي تجاوزنا معه هاجس اللهجة الأمازيغية، مما سهل فهم المعلومات بشكل أفضل للرجال الأكبر سنًا والذين لا يتقنون اللغة العربية بشكل جيد.
أعجبتني التفاتة السيد عبد الله حيث قام بفتح حوار بين الشباب والشيوخ ليتبادلوا فيه أطراف الحديث لأنه كان من الغريب أن يتم التواصل بينهم ، الشيء الذي يعتبر حلقة تغيير بالنسبة لهم فأصبح الكبار يستمعون بجدية إلى أصوات الشباب ، فقد بدأوا في التحاور بروح من الوئام والتعاون، حيث كل حديث لهم كان يهدف إلى إنقاذ قريتهم وتطويرها
"ففي تدخل جميل قال هذا ما أردناه وما جئنا إليه أن يكون بينكم التحام و مودة و احترام "
ومن هنا يتضح، أنه بفضل الله وبفضل جهود المجموعة، رسالتنا قد تم قبولها بشكل كبير.
قبل أن أختم، أود أن أعبر عن شكري لرئيستنا و لفكرتها الرائعة حيث قامت بجلب بعض العقيق والأساور، لرجال القرية ليقدموها لزوجاتهم، لتكون بداية لصفحة جديدة في حياتهم الزوجية كان من المدهش أن كل واحد منهم كان يسعى للحصول على أجمل الأساور ليهديها اياها ….
من هنا علينا أن نتعلم أن الحياة بضعة أيام ، فلنستغلها مع من نحب، و لا نجعل المشاكل تأخذنا في دوامتها و ننسى أننا نضيع عمرنا في شيء لا يستحق العناء و الشيء الذي خلقنا من أجله أضعناه .
حان وقت العودة إلى الديار بعد أسبوع تعلمنا منه أكثر مما علمنا ومن بين الجمل التي حفرت في قلبي، جاءت كلمات رجل عانقني وعيناه تتلئلئ فرحا همس في أذني قائلا : "كنت لا أجلس مع أسرتي ، ومن اليوم سأعيش من أجل أولادي وزوجتي." وبعد لحظات من العناق والكلمات الصادقة، وصلت لنهاية الرحلة مع خالص الشكر لهذا الفريق، الذي كما قلت سابقًا، لم يكن مجرد فريق، بل كان عائلة.