في إطار مشروع تعزيز التعاون بين الجامعة والمجتمع المدني بجهة الشرق، قدّم الدكتور نصر الدين ايناو، مستشار بمحكمة الاستئناف بوجدة ورئيس المكتب الجهوي لنادي قضاة المغرب، عرضًا حول الوساطة الأسرية في المغرب وآفاق تفعيلها. أبدى خلاله قلقًا بالغًا من تزايد حالات الطلاق، مؤكدًا أن الوسائل التقليدية، وفي مقدمتها القضاء، لم تعد قادرة وحدها على التعامل مع حجم النزاعات الأسرية، نظرًا لتراكم الملفات وبطء الإجراءات، وهو ما أضعف ثقة المتقاضين.
كما أشار الدكتور إلى أن هذا الإشكال لا يخص المغرب وحده، بل يُعد ظاهرة عالمية، وهو ما دفع العديد من الدول إلى تبني الوسائل البديلة لحل النزاعات، وعلى رأسها الوساطة. والمغرب ورغم إصداره للقانون 95.17 المتعلق بالوساطة والتحكيم، إلا أنه اقتصر على المجالات المدنية والتجارية، دون أن يشمل المجال الأسري، رغم الحاجة الملحة إليه. وأكد على أن الوساطة الأسرية في السياق المغربي تستند إلى خلفية شرعية، حيث ورد في القرآن الكريم، قوله تعالى في سورة النساء:
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾ [النساء: 35]، وهي آية صريحة تُقرّر مبدأ الوساطة والتحكيم الأسري كوسيلة لتسوية النزاعات بين الزوجين، عبر تدخل أطراف محايدة من العائلة، بهدف الإصلاح لا التفريق. كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن في أحاديثه فضل السعي في الإصلاح بين الناس.
أما من الناحية القانونية، فلا تزال الوساطة الأسرية تفتقر إلى تأطير صريح داخل مدونة الأسرة، التي تكتفي بالإشارة إلى الصلح في بعض موادها، دون تنظيم واضح لمسطرة الوساطة أو اعتمادها كإجراء مستقل. هذا النقص أضعف ممارستها داخل المحاكم، حيث تتم غالبًا بشكل شكلي، دون مرافقة مؤسسية أو تكوين مهني للوسطاء. ولمواجهة هذا الوضع، شدّد الأستاذ على ضرورة إدماج الوساطة الأسرية ضمن منظومة العدالة، عبر إصدار إطار قانوني واضح، وتكوين وسطاء متخصصين يتمتعون بالمؤهلات الأخلاقية والمهنية الضرورية، مثل الحياد، والذكاء الاجتماعي، وضبط النفس، والقدرة على الإصغاء والتحليل. كما اقترح تصورًا للإجراءات التي يجب أن يتبعها الوسيط، وتشمل:
- الاستقبال والتحضير
- جمع المعطيات
- تنظيم جلسات فردية
- إدارة الحوار المشترك
- بلورة الاتفاق النهائي
- المتابعة أو الإحالة عند الحاجة على جهات أخرى.
أما الصعوبات التي قد تواجه الوسيط، فتتراوح بين رفض أحد الطرفين للوساطة، أو غياب الثقة، أو وجود عنف أسري، أو تضارب في المعطيات، أو صعوبة ترجمة الاتفاق إلى صيغة تنفيذية. ولمواجهتها، يجب تعزيز التكوين، والتمييز بين النزاع والخطر، وضمان استقلالية الوسيط.
واختُتم اللقاء بجلسة تطبيقية جسّدت دور الوسيط، اقترح خلالها الأستاذ تدريبا تطبيقيا على مهارات الوساطة الأسرية، حيث كانت لي تجربة مميزة في هذا اللقاء قمتُ من خلالها بتمثيل دور الوسيط بين زوجين يعيشان خلافًا مستمرًا منذ عدة أشهر، دون وجود عنف جسدي، لكن مع توتر دائم وسوء تواصل. كان الهدف من الجلسة هو محاولة إعادة بناء مساحة للحوار تساعد على الوصول إلى توافق، لا سيما وأن بينهما أطفالا. من خلال هذه التجربة التمثيلية في لعب دور الوسيط الأسري، أدركتُ أن الوساطة تتجاوز كونها مجرد تقنية لتقريب وجهات النظر، لتُصبح فنًا إنسانيًا راقيًا يتطلب قدرًا كبيرًا من الصبر، والإنصات الفعّال، والحياد التام، إلى جانب فهم عميق لديناميات العلاقات الأسرية. لقد لمستُ أن نجاح الوساطة لا يتحقق بالحلول الجاهزة، بل ببناء الثقة التدريجية بين الأطراف، وخلق مناخ يُشجع على الاعتراف والبوح دون خوف. كما أن احترام مراحل الوساطة، وعدم استعجال النتائج، كان عاملًا حاسمًا في تهدئة التوتر وتوجيه النقاش نحو نقاط التلاقي بدل التنافر. هذه التجربة رسّخت لدي قناعة بأن الوسيط ليس مجرد فاصل في النزاع، بل هو مُرافق في رحلة التفاهم والصلح، يحمل على عاتقه مسؤولية أخلاقية ومجتمعية كبرى، ويؤدي دورًا حيويًا في حماية تماسك الأسرة واستقرار المجتمع.