في قلب مدينة مراكش العريقة، يقف حي الملاح شاهداً على تاريخ طويل من التعايش بين اليهود والمغاربة هذا الحي الذي كان ينبض بالحياة والتسامح، حيث امتزجت الثقافات وتعايشت الأديان، ليصبح رمزاً الانسجام والتلاحم بين مختلف الفئات لكن الزمن قسا على الملاح، فتبدلت الأحوال وتحول الحي من ملاذ للتعايش إلى بقعة تعاني من التهميش والإهمال.
بين أزقته المنعرجة وبيوته العتيقة، تختبئ قصص لا حصر لها من الألم والمعاناة، حيث تفشت ظاهرة الإدمان بين سكانه، مما استدعى تدخل السلطات لبناء مركز بركا إدمان، في محاولة لإنقاذ أهالي الملاح وأطفالهم من براثن الخمور والمهلوسات ومن بين جهود الدعم، جاءت مؤسسة الأطلس الكبير بمشروع الأمل، لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي لهؤلاء السكان بالتعاون مع المركز.
في هذا السياق، اشتغلت مع أطفال النسوة اللاتي يتلقين العلاج بالمركز، وكل طفل يحمل قصته الخاصة، وآلامه وآماله التي تشكل جزءاً من مشهد أكبر.
الطفل الأول الذي سنطلق عليه اسم يوسف، كان يعيش حياة هادئة ملؤها السكينة والأمان، محاطاً بحب والديه ورعايتهما كان تلميذا مجتهداً، يتفوق في دراسته ويحلم بمستقبل مشرق، إلا أن طلاق والديه جاء كالعاصفة التي اقتلعت جذور استقراره هذا الطلاق، الذي لم يتقبله عقله الصغير، جعل عالمه ينهار تدريجياً، حيث بدأ يعاني من الإهمال الدراسي، وتلاشت آماله كأوراق تساقطت في خريف بارد كل ما يتوق إليه الآن هو رؤية والديه معاً تحت سقف واحد، أن يعود الزمن إلى الوراء حيث كانت عائلته متحدة ومتناغمة ،يتمنى أن تتعافى والدته التي تتلقى العلاج بالمركز، فقد أصبحت تعاني من كراهية عميقة تجاه الرجال، انعكست بوضوح على تعاملها مع أطفالها ،هذا الجرح النفسي، الذي سببه زوجها السابق، لم يندمل بعد، بل أثر بعمق على نفسيتها ونفسية أطفالها الذين يشعرون بالضياع هذا الطفل، الذي كان يجد في حضن أمه الدفء والأمان، يشعر الآن بأنه قد فقد كل شيء ،لم تعد عيناه تلمعان بالبريق الذي كان يعكس براءته وسعادته ،بات يشعر بالارتباك والحزن العميق، وكأن كل شيء كان يعول عليه قد تبخر في لحظة يتمنى العودة إلى تلك الأيام التي كانت تملؤها السعادة، حيث كانت عائلته تحتضنه بحب وحنان ،يحن إلى تلك اللحظات التي كان فيها الجميع يضحكون و يتشاركون الفرح، دون أن تعكر صفوهم أي سحابة من الحزن ،يرى في حي الملاح مصدراً لكل مشاكله، وكأن هذا المكان هو المسؤول عن كل ما يعانيه يحلم بالخروج من حي الملاح، والانتقال إلى مكان جديد يمنحه فرصة لإعادة بناء حياته واستعادة سعادته المفقودة يتمنى أن تتجاوز أمه محنتها النفسية وتعود لرعايته بحب وحنان، ليتمكن هو من العودة إلى مدرسته وتحقيق أحلامه التي باتت تبدو بعيدة المنال حالته النفسية تتسم بالتعقيد والحساسية البالغة، فهو يعاني من تدهور في ثقته بنفسه وبالآخرين ،يحتاج إلى دعم نفسي واجتماعي مكثف، لمساعدته على تجاوز هذه المحنة واستعادة توازنه النفسي يحتاج إلى بيئة حاضنة تعيد إليه الشعور بالأمان، إلى مساحات من الفرح والطمأنينة بعيداً عن الظلال الثقيلة التي ألقتها عليه تجربته الأليمة ، يتمنى أن يجد من يمسك بيده و ينتشله من هذا البحر المتلاطم من المشاعر، ليبدأ رحلة جديدة نحو الشفاء والنجاح أما الطفل الثاني، فهو قصة أخرى من المعاناة. نطلق عليه اسم "سمير" تعرض سمير في طفولته لحادث أليم تسبب في تشوه أصابعه، ومنذ ذلك الحين أصبح ضحية للتنمر في المدرسة ،زملاؤه يعاملونه بقسوة ويسخرون منه بلا رحمة، مما دفعه في النهاية لترك الدراسة، هارباً من الألم النفسي الذي لا يقل قسوة عن ألمه الجسدي، هذا القرار لم يكن سهلاً عليه، فقد كان محباً للعلم والمعرفة، ولكنه وجد نفسه مجبراً على الابتعاد عن المدرسة، المكان الذي كان ينبغي أن يكون ملاذاً آمناً له يعيش هذا الطفل الذي لا يتعدى 12 من عمره في بيئة لا ترحم، حيث الإدمان والجريمة جزء من الحياة اليومية ،مشاهد المخدرات والعنف أصبحت جزءاً من حياته، وحي الملاح الذي يسكن فيه يغرق في دوامة من المشاكل الاجتماعية التي تجعله يشعر بالعجز والقهر ،بالإضافة الى أن أمه تتعالج بالمركز من إدمانها، مما ضاعف معاناته بسبب شعوره بالعار والخجل مما تمر به عائلته فهو يشعر بأنه محاصر في دائرة من البؤس لا نهاية لها، حيث يبدو الخروج منها أمراً مستحيل ورغم كل هذا الظلام، يحمل سمير في داخله طموحاً كبيراً ،يريد أن يصبح ملاكماً في المستقبل، يرى في رياضة الملاكمة وسيلة للخروج من واقعه المرير، طريقة ليثبت لنفسه وللعالم أنه قادر على التغلب على الصعاب ،لكنه يجد نفسه محاصراً ببيئة لا تساعده على تحقيق حلمه، بل تعيق خطواته وتزيد من أعبائه حلمه بأن يصبح ملاكماً ليس مجرد رغبة عابرة، بل هو هدف يسعى لتحقيقه بكل ما أوتي من قوة ،يرى في الملاكمة فرصة للهرب من حياته المظلمة، نافذة يمكنه من خلالها التنفس بحرية والتخلص من قيود الماضي ،ولكنه يعلم جيداً أن الوصول إلى هذا الحلم يتطلب جهداً كبيراً ودعماً نفسياً واجتماعياً لتجاوز كل هذه العقبات فهو يعيش في حالة من الألم المستمر، لا جسدياً فحسب بل نفسياً أيضاً ،يشعر بالعزلة والنبذ، وكأن العالم بأسره قد تخلى عنه. يحتاج إلى دعم نفسي يمكنه من تجاوز شعور الدونية والانكسار، ودعم اجتماعي يعيد إليه ثقته بنفسه وقدرته على مواجهة التحديات إنقاذه يتطلب تقديم رعاية شاملة، تبدأ بتوفير الدعم النفسي لمساعدته على التعامل مع التنمر والعار، مروراً بتقديم بيئة آمنة يمكنه فيها متابعة دراسته وممارسة رياضة الملاكمة، وانتهاءً بتوفير فرص له لتحقيق حلمه بأن يصبح ملاكماً ،يحتاج إلى من يؤمن بقدراته ويقف إلى جانبه، إلى مجتمع يحتضنه ويمد له يد العون بعيداً عن ظلال الإدمان والجريمة.
إن إنقاذ هؤلاء الأطفال ليس مهمة سهلة، ولكنه أمر ممكن من خلال الجهود المشتركة. يجب أن نبدأ بتقديم الدعم النفسي المكثف لهم ولأمهاتهم، لضمان تجاوز الآثار النفسية للإدمان والانفصال الأسري. يجب أن نعيد لهم ثقتهم بأنفسهم ونساعدهم على العودة إلى مقاعد الدراسة، حيث يمكنهم بناء مستقبلهم بأيديهم.