جميع الأفكار

كأس شاي بطعم الهوية

Akrich
byHigh Atlas Foundation
onJune 21, 2022

Version english

بقلم: نور الدين البحري

تأتينا الذكريات من حياتنا على أوتار التجارب الجديدة، بعضها يسحبنا إليها لأجل العودة لتخيل سحرها مرة أخرى والتنقل بين لحظاتها الفريدة والمميزة ، لا شبيه لها ، لا في تفاصيل كبيرة ولا صغيرة ، يسهل تمييزها وفرزها من بين الذكريات. هذه تجربة أمُرُّ بها مع فريق مؤسسة الأطلس الكبير التي نظمت رحلة استكشافية جديدة ـ على الأقل بالنسبة لي ـ، كان مقصدها باتجاه نواحي المدينة الحمراء “مراكش” في طريق مؤدِّية إلى جماعة “تامصلوحت” على مناطق تتناوب وتتلاحق فيها السهول والهضاب نحو منطقة اسمها “أقريش”. كانت نقطة الانطلاق من بيت مؤسسة الأطلس الكبير في شمس الصباح التي أعلنت احتضان اليوم بكل صفاء والجميع مستفيض بالفضول لمعرفة المجهول ، دارت عجلة يومنا هذا ودارت معه عجلة الحافلات مطلقة إشارة البداية ، وانطلقت معها دردشات مطوّلة حول المكان المنشود وألحان الموسيقى تلون أجواء الرحلة أو تقلل وحشة الجلوس وحيدا ، وأقلام تلتقط الذكريات وعيون متأملة لضفاف الطريق ، طريق استمرت بعد خروجنا من المدينة على شكل خط مستقيم قليل المنعرجات والمنعطفات إلى حدود منطقة أقريش التي فيها توقفت العجلات على سهوبها معلنة عن وصولنا وقد سبقها أطفال القرية باستقبالنا وهم عائدون من المدرسة ، وبالمثل استقبَلنا المكان بجماله الأخاذ في مجال مفتوح واسع الرحاب مع سماء زرقاء خفيفة الضباب ، لتبدأ بعد ذلك الذكريات تُلتقط هذه المرة بالهاتف من بعثة الطلبة الأمريكيين التي صاحبتنا في الرحلة تعبيرا واضحا منها بجمال المكان

افتتح السيد رئيس مؤسسة الأطلس الكبير “يوسف بن مير” بكلمات ترحيبية بدايةً ، ثم بكلمات تلوح بمعانيها وتكشف لنا هوية المكان الذي يحتضن مشتلا جميلا خاصا بمؤسسة الأطلس الكبير ، مشتل له إخوة في جميع أنحاء المملكة المغربية ، كلها موجهة بكل عزم للمساهمة في الحد من التغير المناخي. أما مشتلنا الجميل هذا والذي يقع بمنطقة أقريش فله خاصية مميزة وفريدة ، وهي أنه يحتضن جزءً لا يتجزأ من تراث المنطقة ، ضريح يهودي مع مجموعة من القبور التي دَفن فيها اليهود موتاهم في مرحلة من محطات الزمن ، وأكمل السيد المسؤول عن المشتل ما بدأه السيد “يوسف بن مير” بتعريفنا بقصة المشتل والضريح التي كانت مثيرة للاهتمام ، فعائلته لها تاريخ في هذه الأرض ، وهي التي جعلت المكان حيا لا يزال صامدا ليحكي قصته ، عبر تلاحق أجداده وعلاقتهم المتلاحمة والوطيدة باليهود

استمررنا في التوغل شيئا فشيئا داخل الضريح المتدرج ، كل درجة نخطها تقع أعيننا على قبر أو قبرين في اليسار ومثلها على اليمين ، كل قبر يحمل كلمات تكشف نفسها باللغة العبرية تمنيت لو استطيع سبر أغوارها لتحكي لي قصة كل واحد من هؤلاء الناس الذين دفنوا هنا. وهكذا تابعنا جولتنا في المشتل إلى أن وصلنا إلى أسفله حيث يتواجد فيه الضريح داخل غرفة يسكنها وبالضبط في واحدة من زواياها ، تحيط به صور من كل جدار لأشخاصَ يهود تُشعرك صورهم بأنهم أشخاص لهم تاريخ عظيم للطائفة اليهودية رغم أني أول مرة أرى صورهم ، ولا معلومة قد مرت في ذهني عنهم. وفي هذه الغرفة بالذات شكل موكب الرحلة حلقة من كل الأعراق والأجناس والديانات للاستماع إلى حكاية تأخذنا من الحاضر إلى الماضي مع أسئلة أو أجوبة من الحضور تُلوّح من هنا وهناك ، تجيب أو تضيف قصةً إلى قصة أخرى ، يربطها جميعا الشبه أو المثل بقصة المكان ، تغني النقاش وتطرح أبعاد جديدة للتأمل

ومع تاريخ الضريح الذي أخدنا معه إلى ماضي المنطقة ، ها نحن نعود إلى الحاضر للاستمتاع بجلسة شاي مع الأصدقاء ، جلسة شاي فريدة من نوعها ، بل يمكن أن نطلق عليها تناول كأس من الهوية ، وقصدي هنا هو أن في جلسة الشاي هذه ، رافقها مائدة حوارية طُرح فيها سؤال دسم جدا وهو: ماذا تعني لك الهوية عبر تناولك الشخصي ؟ سؤال بعث في الحوار فرصة للتعرف على أفراد الرحلة على اختلاف أعراقهم وألسنتهم المتنوعة. تَمّ تقسيمنا لمجموعات مختلطة ومتنوعة من كل فرد مختلف عن الأخر ، تنطلق منها الخلفيات والمرجعيات الخاصة ، ووُزِّعت الأقلام والأوراق للتعبير عن الانتماء ، ويُكْتَب للقلم أن يتبنى هوية كل مجموعة ، و قُدِّر للورقة أن تعلن عنها ، وفُرِضَ على كأس الشاي فوق كل مائدةٍ أن يستمع ، ثم بدأت الهويات تتكلم والأذان تستمع : تاريخ وأصولٌ تَحْضر ، ودينٌ ووطن يُعْلَنْ ، وعِرقٌ وقبيلة تُمَجّدْ ، وتجارب وأحداث تُسطّر ، والعديد والمزيد من الآراء كلها نحتت في كل فرد منا على ما هو عليه وشكلت مخزونه المعرفي عن كلمة “هوية” ، وهاهي الجدران تقوم بدورها بالإعلان عن هوية كل مجموعة ، كل ورقة تختلف من حيت الشكل والرسم وهي تُلّمح بمسار الحوار، وبدأت كل مجموعة بالتعبير عن نفسها وعن مكنوناتها حول سؤال الهوية ، منظر مدهش لم أرى له مثيل ، فمع كل مجموعة تكشف عن نفسها إلا وتُصرّح بشيء جديد لم تراه ولن تراه في أي كتاب إلا في جلسة حوار فريدة من نوعها مثل هذه ، أضمن لك فيها أن تجد عددا من الأجوبة وهو نفس العدد الذي ستحمله معك من الأسئلة

بعد هذه الجلسة الحوارية الممتعة ، تَأتَى لنا أن نحضر إلى مقر تعاونيةٍ تابعة لقرية “أشبارو” ، تعاونية خاصة بنساء هذه القرية ، جعلوها مكانا للوحات فنية من الزرابي ، صنعتها أنامل ذهبية مبدعة لنساء أهل القرية ، كل زربية تحكي قصة مختلفة بألوانها وخطوطها ومنحنياتها كأن سؤال الهوية لحق بنا إلى مقر التعاونية مجددا ، يا لهذا الإبداع ، عقلي يتساءل من أين أتى الخيال والإلهام إلى هؤلاء النساء ليرسمن لوحات بتنسيق وتمازج دقيقين باستعمال أصابع اليد فقط مكان الريشة ، وبخيوط الصوف مكان ألوان الرسم ، و أكثر من ذلك بأدوات يدوية متوغلة في القِدَم بل هي عبارة عن تراث أُعيد إحيائه من جديد بكل مهارة واحتراف. كانت هذه فرصة للبعض لاقتناء بعض من منتجات التعاونية تذكارا له في المستقبل ، تُسعف في العودة به إلى الماضي لتذكيره بكل سرور وترحيب بهوية المكان ، وعلى اختلاف الهويات والأجناس اختلفت كذلك الأذواق في الألوان والأشكال و الأحجام في اختيار المنتجات ، يا إلهي أليس للهوية جواب واحد ، أليس لها لون واحد ، أليس لها شكل واحد ، قد أحزن إن كانت كذلك ، كيف لا وفي جوهر اختلافها هو بالذات ميزتها ، وإن موطن الاختلاف فيها هو مركز إبداع الثقافات واكتمالٍ للوحة الإنسان في نهاية المطاف ، ومصدرا للفخر والإنتماء عبر ترك بصمة خاصة في التراث الإنساني

This article was completed with the support of the United States Agency for International Development (USAID) and the Hollings Center for International Dialogue. The High Atlas Foundation is solely responsible for its content, which does not necessarily reflect the views of the USAID or the Government of the United States.

The USAID Dakira program, implemented by the High Atlas Foundation and its partners, aims to strengthen inter-religious and inter-ethnic solidarity through community efforts that preserve cultural heritage in Morocco.