خصوصيات البحث والتحقيق في قضايا الاتجار بالبشر في ضوء المسطرة الجنائية المغربية
تُعد جريمة الاتجار بالبشر من أبرز التحديات القانونية والإنسانية التي تواجه المنظومة الجنائية المغربية، نظراً لطابعها المركب، وتعدد صورها، وتداخلها مع جرائم أخرى. فهي جريمة معقدة تتشابك فيها الأبعاد القانونية والاجتماعية والاقتصادية، حيث تمس كرامة الإنسان وتستهدف فئات هشة، وتُمارَس ضمن شبكات منظمة تستغل أوضاع الهشاشة والفقر، وتستفيد أحياناً من ضعف التنسيق المؤسساتي. هذا الواقع فرض على المشرع المغربي سن ترسانة قانونية حديثة، تواكب التزامات المغرب الدولية، وتُعنى بمواجهة هذه الظاهرة بشكل شامل. غير أن تفعيل هذه النصوص، خاصة على مستوى البحث التمهيدي والتحقيق، يواجه عدة صعوبات عملية، تتطلب تعزيز المسطرة الجنائية وتطوير آلياتها بما ينسجم مع خصوصيات هذا النوع من الجرائم، والذي يختلف بشكل جوهري عن الجرائم التقليدية. ويهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على هذه الخصوصيات، وتحليل مدى فعالية المنظومة الجنائية المغربية في التصدي لجريمة الاتجار بالبشر.
الإطار المفاهيمي والتشريعي للاتجار بالبشر
يقصد بالاتجار بالبشر استقطاب أو نقل أو استقبال أشخاص، بوسائل مثل التهديد أو الخداع أو استغلال وضعية ضعف، بهدف استغلالهم في أشكال متعددة، مثل العمل القسري أو الاستغلال الجنسي أو التسول المنظم. وقد اعتمد المشرع المغربي تعريفاً موسعاً لهذه الجريمة، متأثراً ببروتوكول باليرمو، ما سمح له بإدراج حالات كثيرة تحت طائلة التجريم. كما عمل على تخصيص عقوبات مشددة، وضمانات إجرائية لصالح الضحايا، واعتبار بعض الفئات، كالنساء والأطفال، في وضعية حماية خاصة.
خصوصيات البحث التمهيدي في قضايا الاتجار بالبشر
تُعد المرحلة التمهيدية من البحث الجنائي أساسية في بناء الملف، لكنها تواجه عدة صعوبات في هذا النوع من القضايا. فشبكات الاتجار تعتمد أساليب مراوغة وتنتشر عبر مناطق جغرافية مختلفة، ما يتطلب إمكانيات تقنية ولوجستيكية دقيقة، وتعاونًا دوليًا فعالًا. كما أن الضحايا أنفسهم قد لا يتعاونون نتيجة الخوف أو التهديد أو انعدام الثقة في الجهاز الأمني والقضائي. وهنا تبرز أهمية التعامل الحساس مع الضحية، وضمان عدم توريطها في التحقيق كجانية محتملة، بل باعتبارها طرفاً مستحقاً للحماية.
تُمنح الضابطة القضائية في هذا السياق صلاحيات استثنائية نوعاً ما، مثل إجراء التنصت، أو اعتماد التسجيلات، أو مراقبة الاتصالات الإلكترونية، شريطة موافقة النيابة العامة وتحت رقابتها. كما أن التنسيق بين الفرق الأمنية والنيابة العامة يُعد ضرورياً لضمان الفعالية، وهو ما لا يتحقق دائمًا في الممارسة اليومية بسبب تفاوت الكفاءات أو نقص التكوين المتخصص.
التحقيق الإعدادي والضمانات المرافقة
بعد انتهاء مرحلة البحث التمهيدي، ينتقل الملف إلى قاضي التحقيق الذي يتمتع بصلاحيات موسعة في قضايا الاتجار بالبشر. من بين هذه الصلاحيات، إمكانية إصدار أوامر تفتيش خارج الأوقات القانونية، أو منع التواصل بين الضحايا والمتهمين، أو الاستماع إلى الضحايا في جلسات سرية. كل هذه الإجراءات تهدف إلى ضمان سلامة الضحية وسرية الملف، خاصة حينما يتعلق الأمر بشبكات متشعبة تتسم بالخطورة.
يُمكن لقاضي التحقيق أيضًا إصدار إنابات قضائية دولية أو التعاون مع هيئات أجنبية عند وجود امتدادات خارجية للجريمة، وهي خاصية باتت متكررة في هذا النوع من القضايا. كما أن حماية هوية الضحية، وضمان عدم تعرضها للانتقام، يُعد أمرًا محوريًا في إنجاح التحقيق. لكن بالرغم من ذلك، تبقى الممارسات القضائية متفاوتة من حيث درجة الالتزام بهذه الضمانات.
يتضح من خلال ما سبق أن جريمة الاتجار بالبشر تطرح إشكالات عميقة على مستوى البحث والتحقيق، نظراً لطبيعتها المعقدة والمتشابكة. وقد حاول المشرع المغربي الاستجابة لهذه التحديات من خلال مجموعة من المقتضيات القانونية والإجرائية التي تراعي مصلحة الضحية وتُوسع من صلاحيات أجهزة البحث والتحقيق. إلا أن هذه الجهود التشريعية تظل محدودة الأثر ما لم تُواكبها ممارسات مهنية متخصصة، وتنسيق مؤسساتي فعّال، وتكوين مستمر للفاعلين. كما أن تعزيز الثقة بين الضحية والمؤسسة القضائية، وتوفير بنية استقبال ودعم نفسي واجتماعي، يُعد مدخلاً أساسياً لضمان عدالة جنائية ناجعة، قادرة على كبح جماح شبكات الاتجار بالبشر، وصون كرامة الإنسان في ظل سيادة القانون.
تم إنجاز هذا المقال في إطار حملة التوعية القانونية التي يقودها طلبة الدفعة الأولى المشاركين في برنامج العيادة القانونية بوجدة، في إطار برنامج "تعزيز المشاركة بين المجتمع المدني والجامعة - جهة الشرق"، الذي تنفذه مؤسسة الأطلس الكبير والممول من الصندوق الوطني للديمقراطية (NED). ويهدف البرنامج إلى تعزيز التعاون بين الجامعات ومنظمات المجتمع المدني، وتزويد الطلبة بالمهارات العملية لمعالجة القضايا الاجتماعية والقانونية وتعزيز الوعي المجتمعي بجهة الشرق. المحتوى يعكس وجهة نظر الكاتب ولا يُمثّل بالضرورة موقف الجهات الداعمة أو المنفذة.